Subscribe to Wordpress Themes Demo
ذلك الصوت

فى البدء كان السكون .
.. وإذ بالصرخة المدوية تمزق نسيج الليل فى اللحظة التى يستيقظ فيها دوما من كابوس ، وضجة الارتطام المفاجئ تطرق كيانه بكل قوة ( قد يكون كابوسا أخر ) . قال لنفسه ذلك مرات لكنه الآن وتلك اللحظة الخاطفة كالبرق يدرك بفطرة لا تخطئ أن شيئا ما يحدث ، وفوق إرادة الجميع . فى البداية جاءه الصوت كطرقة هائلة لحجر كبير قذفه مشاكس أعلى السطح ، وبطريقة عمودية هوى متدحرجا على درجات السلم .. كان يتكرر فى اللحظة ذاتها وعلى مدى شهرين فاتا .. بالتأكيد هى ساعة دقيقة لا يتسلل إليها التخريف تلك التى يضبطها المشاكس وهو يقطع المنعطفات والحوارى بعدما خفت الرجل تماما وترامت ظلال الجدران فوق أسفلت الطريق باهتة بالضوء الليلي الخفيف ليفعل فعلته المقصودة ، ثم يمضى تاركا خيطاً من التساؤل القلق .. كان الصوت يباغته كحلم .. منذ أسبوع تراءى له تصور مخيف ومدهش " ثمة قبضة حديدية لمجهول تهوى على جسد سمين ، مكتنز من الخلف فيترنح كالسكير بين الدرابزين الحديدي والحائط، ثم يسقط مترجرجا أمام الشقة - كما الصوت يبين - محدثا ذلك الارتطام المرعب .. يأتى المساعدان ولا بد أنهما يرتديان سترات سوداء لامعة وأحذية خفيفة كالحة .. يجرانه من رجليه القصيرتين الداميتين على الدرج الرخامي .. خوفه أن ذلك التصور بدأ ينسج خيوطه ليكتمل كالفرض الوحيد المؤكد ؛ فأهله فى الريف يدركون شفافيته الدهشة حتى سرت بينهم مقولة " أن فيه شيئاً لله " .. ينزعج لمجرد تصور جريمة تحدث داخل تلك العمارة التى يسكنها ست أسر ولم ينوه بها أحد منهم أمامه أو يشاركه الرأى فى حسمها ، هم يخرجون جميعا فى أوقات متفاوتة بعد أن يلقوا على بعضهم سلاما باردا وأحيانا يشيرون فقط بأيديهم وعلى وجوههم ذلك التعبير المشوش بالراحة أو اللامبالاة .. قرر أن يجلس يوما خلف الباب مباشرة ليقطع الشكوك التى تهزم طمأنينته .. أعد عدته : عصا خيزرانية تنتهى بقبضة مكورة وسكين .. كان ذلك حين رحلت زوجته لزيارة أقارب لها .. ارتمى على كرسى الصالون مرتفقا بيديه على حوافه وأسلحته البدائية تشرع رؤوسها القاتلة تجاه الباب . كان يعد الدقائق بنفاذ صبر .. يقوم بين حين وآخر ليعدل هندامه .. يزرع الصالة ذهابا وإيابا .. يطل على ولديه النائمين فى الحجرة المطلة على الشارع إذ يترامى له صوت البداية كطبل بدائي ينبعث من زمن موغل فى القدم .. ها هو شئ ما يتحرك حثيثا.. ثمة مشاورات وحوار قصير يدور بين القاتل والضحية ، والقبضة الملعونة لا تخطئ اللحظة الموعودة فتهوى بكل قوة وحنق .. بكل ضراوة الوحش الرابض على ذلك الرأس المسالم الذى هو بالضرورة كبير .. يترنح الجسد السمين الذى يحمل فى شجاعة ذلك الرأس المسالم الكبير .. يقابل الدرابزين الحديدي فينزف دماً ، ثم يهوى محدثا ذلك الصوت العميق الذى يشبه آهة مكتومة لا تخرج من الفم ولكن من الجسد الضخم الذى لا يجد من ينجده .. قرر أن يفتح الباب ليداهمهم فى عنفوان الجريمة قبل أن يأتى المساعدان بستراتهما السوداء اللامعة كما شاهدهما فى فلم قديم .. قلبه يضج بقوة لم يعتدها ، وأعضاؤه تنتفض كطائر كسيح ، وقوة مبهمة تشده إلى الخلف فيغوص فى كرسيه مذهولاً ، وعرق غزير يسرى ساخنا على جلده المشدود ..
مرتاعاً كان يحسب الدقائق التى تبقت على عبور الشعاع الأول من نور الصباح من فتحات الشيش .. لم يراوده طائف النوم مرة واحدة . عيناه الحادتان الواسعتان ترمقان الباب بتحد وتعيدان تصور المشهد الدامى بدهشة طفل .. الصوت كان أعلى من ذى قبل لأنه كان قريباً من الجريمة بدرجة مذهلة .. لا حاجز سوى الباب الرابض فى سكينه على مدخل الشقة .. لو أنه امتلك الشجاعة منذ ساعة لكانت أشياء كثيرة قد تغيرت ، كان سيقضى نهائياً على مصدر أرقه كل ليلة .. ماذا لو قال لزوجته التى تبصر دوما نياشين النصر متوسدة رفوف المكتبة فى الصالة، لكنه فى مأزق فوق احتماله وهى لا تسمع شيئاً من قبل ولو أصر ستساعده حتماً بطريقة ما لكنها بالتأكيد ستقول " جبان لا يستطيع حمايتها " . بدت المشكلة فى حما انفعاله المختزلة دفاعاً عن كرامته ، وحين أطل شعاع الصباح الدافئ من شيش البلكونة انفرج قلبه .. استيقظ ولداه الصغيران .. جهز فطوراً .. فتح الباب بحذر وهم متلاصقون ، ومرتابا أطلق نظرة فاحصة إلى المكان .. باغتته المفاجأة الحمراء التى تقبع فى حجم ذبابة على الرخام لصق الباب بالضبط .. انحنى ثانيا جذعه النحيف لأسفل ومرعوبا مد إصبعه ( نقطة دم ) . تملكته قشعريرة باردة .. شعر بالآلف الأضواء الباهرة تسلط على ملامحه المرتبكة .. أحس بالرطوبة العفنة تزحف فى حواسه من قاع البئر السحيق الذى يغرق فيه .. حتما ستشير كل أصابع الاتهام إليه " هو متستر على جريمة تحدث أمام شقته كل ليلة ، بالأمس وجدنا قطرة دم وبالتحليل فى المعمل الجنائي ثبت أنها دم إنسان قتل بضربة قوية فوق رأسه ، فبقعة الدم يا سيدى يتناثر حولها أنسجة ميتة من قاع المخ ، كما أن السكان يختفون واحدٌ وراء الآخر دون أن يتركوا لجيرانهم أي شئ عن أماكنهم أو سر غيابهم الطويل ، ونأمل فى النهاية أن تنال عدالتكم حقها المشروع فى حماية المواطنين".
يقف .. سيكون خلف قضبان الحديد المدبب بلحية مرسلة وشعر أشعث أغبر ، وملابس مميزة .. بالتأكيد هو يعطى المسألة أكبر من حجمها الضئيل كذبابة .. ها هى البقعة الأرجوانية تتمدد حتى تصير بحيرة هلامية ، عميقة وموحشة. جرب أن يلمسها لكن محارة لزجة طوته فى غموضها القارس ولم يفق إلا عندما أطلق عليه السلام جاره فى الدور الثالث .. أيوقف الرجل الذى لا يكاد يعرف شيئاً عنه سوى أسمه ليحادثه بشأن ما يحدث ليفكرا معاً ؟. لم ينتبه إلا على ضغط الأصابع الصغيرة وهى تشده للمضى .. عندما توقفت سيارته أمام النادى الرياضى الذى يعمل نائباً لمديره قرر أن يعود ليرسم خطوط واضحة للجريمة ..
قطع الدرج بحذر المسافر .. تمهل أمام باب شقته .. اقترب من الدرابزين الحديدي ورنا ببصره لأعلى ، بونديرة السلم مقفلة كما هى والسلم الحديدي الصدأ معلق أسفلها ( كل الدلائل تشير لفاعل من داخل العمارة ، إنه يتحدى الجميع ، بل يتحدانى شخصيا ) ومضى يستحث ذاكرته العتيقة أمام كل واحد .. يحلل مواقف قديمة فتتراءى له حقائق لم تكن لتخطر بباله لكن أسم واحد تسمر فى رأسه المنهك " عباس حسنين الجزار " إنه الرجل الذى يستطيع تحدى الجميع بلا خوف كما أنه يكرهه فحين يراه خارجا من البوابة يقف مواجها له العين فى العين ويد الرجل ملطخة بدماء الذبيحة وهو يقول " أهلا يا كابتن " وضحكة طويلة تطارده من الخلف حتى يصل لباب السيارة ، وهو الوحيد الذى يطرق باب أي من السكان ليطلب شيئا ما ، ريفي النشأة مثله لكنه لا ينحنى لأحدهم مثلما يفعل الجميع .. وفكر أن كل ذلك ليس سببا كافيا لأن يتحكم الرجل بمصائر السكان هكذا .. خطا متئدا على حواف السلم يقيس بالنظر المسافات ؛ يحاول إعادة مشهد يتصوره كل ليلة كأنه يهم بكتابة سيناريو لفلم بوليسى .. بوغت سمعه أزيز باب يفتح .. عاد جوار الشقة وتحسس الحوائط وفحص المدخل حين مرت زوجة عباس بطرحتها القاتمة وجلبابها الضيق وفمها الصغير الذى لا يناسب جسدها السمين :-
- صباح الخير يا أستاذ محمود .. خير ؟
- لا .. أطمأن فقط على ورق نسيته .
وتشاغل فى فتح جواب كان بجيب بذلته المقلمة .. حاول أن يتحاشى نظراتها خصوصا بعدما رأى ظل ابتسامة بشعة فوق شفتيها ، ابتسامة تقول شيئا غامضا لا يستطيع تفسيره .. قرر أن يطوى الدرج نازلا إليها .. يقبض بلطف مرفقيها ويسألها ملحاً " هل تعرفين شيئا ؟ " لكنما القوة الغامضة التى تشده دوما وتسمره حين يهم بخطوة إيجابية .. تذكر أنها سألته بالأمس عن زوجها فأكد أنه لم يره منذ أيام ، وأكدت مؤمنة على كلامه أنه يغيب أياماً طويلة ويعود فى الليل نحو ساعة ، ربما تسأله لتدفع الحيرة لديه إلى أقصى حدودها .. دخل شقته الفسيحة فاستقبله الهواء المنعش .. جاب الحجرات . كانت الأشياء على حالها كما تركها .. ارتمى على فراشه .. رنا إلى السقف الأبيض الناصع كوبا من لبن أو براءة طفولية ، وضاجع حلما صباحيا فاترا ..
( عناكب الوحدة تسكنك .. تنسج أول الليل خيوطها الواهية لتقتنص كل فرص الطمأنينة . )
فى الليلة التالية كان أتم استعداد .. انسحب من فراشه بهدوء محاذرا زوجته الغارقة فى النوم .. فتح نافذة البلكونة وواربها وراءه .. كان البرد قارسا ، والظلام الدامس يستلقى على القبة السماوية كجسد مسجى .. مسح بناظريه زبالات الضوء المرتعش على أرض الشارع الخالى .. ولج إلى حجرته مرة أخرى ، ثم وارب باب الشقة وأخرج عينيه من الشق ليتحسس بهما الجدران والسلالم والخطوات .. يود لو يطمأن على سكان العمارة أين ذهبوا ومن بقى ألا يفكر مثله أو يسمع ؟ . فتح التليفزيون .. كان عبد الحليم يصدح بأغان شجيه فى ذكراه ، أقفله وأخرج كتابا قديما عن الأمراض النفسية العصابية والذهانية كان يهوى قراءته .. لاشك أنه ينطوى على إعجاب خفى لذلك النوع المعقد الممتع من التخصص ، وما أن يندمج فى سطوره حتى يخيل إليه أن أعراض المرض تنتابه .. هو خائف أن يكون مصابا بالهذيان الصوتى ويصيبه الذعر عندما يتصور نفسه يقطع الشوارع بسيارته لعيادة صديقه القديم .. يخاف أن يستلقى أمامه على الشيزلونج الجلدى الأسود ويأخذ فى قئ ذكرياته المحفورة فى الداخل .. ستثب الابتسامة التى يدرك مغزاها الساخر فى الوجه المستدير الأبيض ويحوز فى النهاية على روشتة بها أنواع المهدئات والمنومات ، كيف يقول أنه يستيقظ مفزوعا كطفل فى نفس الموعد كل يوم إثر صوت يسمعه وحده ؟ حين يمضى سيجلس الطبيب ليبنى شخصا جديدا ومفزعا له لم يعرفه من قبل .
فكر أن يستبدل مسكنه ليعود إلى الريف حيث الطمأنينة التى تتراءى له الآن جنة مفقودة ، ولكن كيف له أن يعود بعدما قطع كل اتصال بهم وبعدما تلاشى أى منهم حين يقابله صدفة ، وهو فى غمرة تفكيره أتاه نعاس خفيف .. استرخى فاردا قدميه، وفى اللحظة نفسها وبمقياس كوني لا يتأخر طرقت أذنه صرخة مكتومة .. قام منتفضا : أذناه ساخنتان ووجهه مورد ، حزين . لو ظل على خوفه لفقد عقله إلى الأبد .. ( هذه الجريمة إنما تتحدانى ) قال لنفسه
كان الضوء خفيفا .. فتش عن حديدة ثقيلة .. أطفأ نور الصالة وفتح الباب بحذر .. فغمت أنفه رائحة دم متخثر لحظة رآه ممنطقا باللاسة والجلباب المقلم المتسخ .. ها هو عباس حسنين يرمقه باستخفاف فى منتصف الليل .. يمشى بطيئا على الدرج بوزنه الذى يجاوز المئة والعشرين كيلو جراما وكرشه الذى يمتد أمامه كبالون مصمت .. يتبادلان نظرة طويلة وفى اللحظة المحسوبة حين يستدير عباس صاعدا ، تلك الاستدارة التى رسمت من قبل مئة مرة يهوى بكل غيظ على رأسه الكبير الملفوف باللاسة باليد الحديدية فيتطوح الرجل بين الدرابزين والدرج تنبثق من منخريه المفلطحين وشدقيه الغليظين خيط متصل من الأحمر القانى ، ثم يستقر مترجرجا أمام الباب .. يكممه ويسحبه لأسفل .. يتلفت حوله .. يلفه فى شنطة السيارة ويطوى الطرق الطويلة إلى مكان مهجور تسيجه بالرهبة إشارات الضوء من بعيد. يخرجه ويسحبه رابطا قدميه بحجر ثقيل ويجره إلى منحدر الماء وبخبطة من بوز حذائه يركل الجثة لتستكمل رحلتها الغامضة وسط الأسماك والقواقع ..
كانت نبضات الهواء تلسع وجهه ، ويؤلمه للمرة الثانية أن يتخيل نفسه فى عيادة صديقه القديم يدلى باعترافات جديدة أو وراء القضبان الغليظة لحجرة معزولة .. ود لو يريح نفسه ويرفع سماعة التليفون ويطلب الشرطة :-
- ألو .. أنا المواطن محمود سالم نائب مدير النادى الرياضى ، قمت الآن بارتكاب جريمة كانت تحاصرنى وبيدى سلاح الجريمة أحفظه ، أرجو لو ترسلوا فريقا للتحقيق أدلى ببقية إعترافى ..
قرر أن يستبدل تلك الطريقة العقيمة التى لن تتيح له الاستمتاع بليال ساكنة بلا صوت بطريقة أخرى .. سيقول واضعا منديلا على سماعة الصوت :-
- ألو . أنا فاعل خير يا أفندم .. هاكم جريمة بشعة ارتكبت وألقى القتيل فى ترعة المياه المارة بجنوب المدينة ، مقبرة القتلى كما تعرفون ، والمجرم يجوب الشوارع .. سلاح الجريمة ما يزال فى يده إلا أنكم ستدورون وتدورون كلعبة مملة لأنها ارتكبت بعناية.
يقفل الخط قبل أن تسمح مدة المكالمة بتتبع مصدر الصوت.. سيوقظ حين يصل زوجته وأولاده ليخبرهم بقضائه التام على مصدر قلقه .
وكانت الأصوات قد بدأت تهل على رأسه ضعيفة وتوالت علية متداخلة فيما اندفعت السيارة بأقصى سرعتها ..