Subscribe to Wordpress Themes Demo
من كلمات الرجل الميت

‏ متناوما كنت أغوص فى المقعد الخشبى .الشمس الصباحية تسكب أشعتها الطازجة فى جوف المقبرة الحديدية المنزلقة فوق قضيبين .. أنقب فى رأسى كى اقتنص لحظة اختراق السهم المسموم كتفى الأيسر لأسقط مغمى على. صامدا كنت بين زملائى المشاة ، حافظا ترتيبى بالضبط ، إلى اليمين واليسار ألمح الخطوات الموازية لأحتفظ بالنظام الذى كفل لنا النصر دوما .. القوس أمامى وجعبة السهام مشدودة بحبل غليظ خلف ظهرى والحربة بجانبى . قال كبيرنا قبل المعركة :-
‏" كلكم مثل هذا " جذبنى للأمام .. وضع يداه على كتفى ولفنى لأستدير حول نفسى أمامهم ممنطقا بالسلاح . خفت أن تقع التميمة فتغوص فى دماء المعركة فربطها حول وسطى بخيط كتانى . ‏شهقت الكتيبة .. سمرت نظراتى للأفق . بدت رؤوسهم تتأرجح خلف التل يسبقها الغبار الخانق . أقعينا على ركبنا والسهم مشدود ومصوب للسماء لعين "رع " كى نستلهم النصر المبين ..
‏أغمضت عينى وتمتمت بأدعية حفظتها لى أمي حين ودعتها. وقتها حدقت فى باندهاش فكتمت دموعى فيما تساقطت لآلاء دموعها دون توقف ، ثم منحتنى قبلة على جبهتى ودعت لى بالحياة وبالنصر ، حينما خرجت من فوهة الحجرة لم التفت كى لا أسمح للدمعة المتجمدة أن تذوب فيملأني الضعف .. تحاشيت أيضا نظرات الجيران وطردت الخوف الذى حاصرنى من كلمات الحارس ليلة أمس : "لا تعاود المخاطرة ‏فالأعين تتربص بك فى كل مكان " حينها نما الخوف داخلى ومشى بجوارى يدب بقدمين حذرتين ويبحلق حوله بألف عين ويتحسس الظلام بأنامل من لهفة .
‏هل أدلت الخادم بشيء ما ؟ إذا حدث! لعل أسمى ورقمى قد دونا فى بردية الموتى ولعل سهام نظرات أبيها تجلدان بطنها المنتفخ فى دهشة . هل سبقتنى إلى ارض الغروب ؟ ركن الشرف أو ركن العار! المهم أن نكون معا: نشبك أمانينا فى تحد ‏وتختلط دمانا المعذبة أنهاراً تطوق حبنا الأبدى . تحسست جسدى وفرقعت أصابعى لأتأكد من وجودى مبرأ الجراح ، ذهلت ! فتحت عينى لأقصى اتساعها لأحدق فى السحن الغريبة من حولى .. غزانى إحساس بالسخط والاضطهاد . لعلهم الملعونون الذين دفنوا بملابس غريبة ولحى مرسلة ‏وأعين ناعسة مستسلمة .
‏هل كان حبى لها تجاوزا لم أعبأ بضرره ؟
‏(يا للجحيم إ الجحيم الذى يفغر فاه فى نهاية الأفق . يا مملكة "رع " المضيئة لنور الحق ، ألا مفر من ذلك الموت الذى يدور بى إلى مالا نهاية ؟ )
أحد الجالسين بجوارى نبهنى بلكزة من كوعه فأملت رأسى على الرجل الذى انتصب أمامى بطاقم أزرق يستر جسده وأوراق صغيرة فى يده ، تفحص ملامحى وأعضائى العارية القادمة لتوها من حرب ضروس ‏ثم مضى وهو يمنحنى وجها مرتبكا.
أغمض عينيي الكليلتين وأتجاهل الهمسات التى بدأت تمتزج بلسعات نسيم الصباح وأهرب إليها ومعها إلى واحة النهر حيث رقدنا فوق الأعشاب المنداة وتدحرجنا مثل خيول فرحة .. نزلت الماء البارد تاركة ملابسها على غصن جاف فنزلت وراءها ، شذى أنوثتها أثلج قلبى فأحسست وقتها أننى حرٌ كعصفور.. لو كنت أخفف من ثقل اندفاعي كل مرة لهربت من شكوك قاتله..تحققت نبوءة الوصيفة حين رقدت خلفى لاهثة وأنا أغادر الماء والعشب مستخفيا وقالت " أنت متهم بتدنيس التربة" أرهقت نفسى فى فك شفرات الكلمة ، فالكلمة هى البدء والمنتهى ، عصب حياتنا نحن حراس القصر المخلصين . تحققت حين أبعدت من حراسة فرعوننا المجيد وجاء ترتيبى فى الصف الأول : الرماة . زميلى بالصف قال وهو يخفى ذعره : " خد بالك".. وجه أراه لأول مرة لكن الموت الذى يحوم حولنا أشعل الألفة فينا .
‏تقدمنا بحذر . تحسست الخوذة واللفافة القطنية والطاقم المحكم والحربة والتميمة ثم التفت حولى لأنفض عن جسدى غبار النظرات المتربصة . قاسيا ‏ومباغتا اخترق ظهرى قبل أن املأ قلبى بشر القتال .لمسته بأصابعى المرتعشة.. أشفق زملائى لكن الكلمات غاصت فى حلوقهم الجافة.. صببت حنقى فوقهم. هم الذين لا يملكون حتى دفع الموت عن أنفسهم .. تلفت نصف التفاتة لأرى ظل الابتسامة البشعة التى ترقص فوق ملامح من صخر ، سقط اتكأت على ذراعي لأقوم وأدقق أكثر فى وضعى المريب مقتولا قبل أن تبدأ المعركة .. كانت الهمهمات تزداد والخوف يطفو فوق الوجوه لكن أحدا منهم لم يأخذ أمرا بمساعدتى فظلوا يرتجفون مثل فئران محاصرة ، وظللت دون تأبين واجب لأقف على حافة التل أدور حول الموت الذى يحيطنى ولا يرغب فى امتلاكى عبر سنوات لا أستطيع حصرها .. البنت التى بجوارى اخفت وجهها فى كفيها ..
بدأت النظرات تصب سخطها فوق أكتافى العارية وجلدى الأسمر بلا سلاح . كلماتهم غريبة وإشاراتهم مستريبة . وقفوا جميعا ثم التفوا حولى ..
أعرف أننا أبناء عذاب واحد فقد تلا شت ريشة ماعت من حافة سماء الوادى . مددت يدى إليهم ، زعقوا .. لماذا يرفض الموت أن ينتشلنى من عمر يبدو مهترئا ولانهائيا ؟
حملونى على أكتافهم دون مقاومة منى . نظرت للخضرة التى تتراكض خلفنا .. فتح الباب الحديدى ثم قذفونى مثل جذع شجرة خرب . صرخت وارتميت متدحرجا فوق الحصى المدبب بالتل الذى أصبح غير مألوفا .. تسلخ جلدى ، وغامت نظراتى ثم بدأت فى الولوج إلى غيبوبة أخرى وليس معى إلا وحشية العجلات الهادرة .