طرف عينى معلق لأعلى .. قبة المبنى حالكة الاصفرار .. استقبل رائحة زخمة تزكم أنفى بينما قدمي تصعد درجة .. كان العمال بمدخل السلم يتكؤون بأرجلهم على البلاط يرصون الجرائد والمجلات .. انسحبت داخل شقوق ممتدة بأعلى الجدر الداخلية لهذا المبنى المكون من طابقين ، تشير لافتة سوداء مقشرة الطلاء ومعلقة بأحد أركان الشرفة التى يراها كل من يعبرون الشارع التجاري ببطء ويرفعون رؤوسهم لأعلى قليلا لفرع الجريدة القومية بالمحافظة ، لكن المبنى القديم صامد كديكتاتور .. كلما تقدمت خطوة علا لهثى القادم من غبار المسافات التى قطعتها من قبل خامشاً كقطة جائعة بطون الشوارع والملامح الفظة والذكريات الممتدة كرصيف قطار كى أطفو بها فوق أوراق كثيفة مصفرة كورق يابس .
خلف مكتب خشبى بنهاية الصالة المربعة المحاطة بصفين من كراسى جلدية مبقورة أحشائها الإسفنجية يجلس السكرتير منكبا على أوراق خلف يافتة خشبية نصف دائرية محفور فيها اسمه ، رأس صغير أصلع وقميص أصفر زاه .. ابتسمت ، رفع وجهه لأعلى ، مددت يدا قصيرة الأظافر كى أمتص حدة نظرته ، قال " انتظر " ومنحنى ابتسامة بجانب وجهه المستطيل الصغير زاد للانتظار ..
الليلة الماضية مشيت متئدا فوق عقارب ساعتها : أحلام متقطعة وأنفاس تملأ ظلام حجرتى بضوضاء وكنت أعيد فيها همس أحدهم حين أخبرنى أنه عثر على من يستطيع نشر روايتى وقد أخذ لى ميعاد ..
بدأ التعب يتساقط قطرة قطرة .. لم أسند ظهرى للمسند .. راقبت حذائى المترب .. أخرجت منديلا ومسحت أعلى الحذاء ، وضعت المنديل بحرص فى سلة المهملات بجوار مكتب فى الجانب لا يجلس إليه أحد . عدت .. تفحصت الوجوه الأخرى التى تفر أوراقها- لا أعرف إن كانت مقالات أم أشياء عابرة يريدون قضاءها - منشغلة مثلى لا بد فى الحوار الذى سيدور خلف باب طويل أبيض من ضلفتين . فتحت الدوسيه المنزلج بين يدى من رطوبة العرق ، عبرت سطورا أحفظها .. " كان البطل فى البداية ممتنا للأقدار التى جعلت حبيبته ترضى عنه وللزهور الحمراء والبيضاء والبنفسجية ولأشجار الطريق التى تظلاهما .. كان البطل - ملح الأرض - يحب النهر إذ يجلسان فوق العشب بالشاطئ ويمددان أرجليهما على مياهه الهادئة وكانت الزهور العطرية وأشجار الطريق والنهر والقمر الليلى الذى يؤنس وحدته يحبونه أيضا ويتبادلون معه الرسائل التى يحملها أنغام الهواء الشجى وكانت حبيبته ذات الستة عشر ربيعا تحبه وترسل له الرسائل الموشومة بأحرف صغيرة وقلوب معطرة وقبلا خفيه لكنه سمح لشفاهه مرة أن تلامس شفتيها والليل يعبر فوقهم كعاصفة " ..
كانت الجدران مصفرة لامعة أعلاها لوحات متفاوتة الحجم ، زهور بنفسجية وبيضاء متسخة وبارزة محمولة فوق أعناق زرقاء داخل إطار نحاسى .. فسيفاء من زجاج ملون لعروس المولد فى ركن منها فارس بشوارب مبرومة كعنترة يشهر سيفا لأعلى لعله يحمى المرأة التى تحتل ثلاثة أرباع اللوحة .. الجدر هنا أيضا مشروخة وإن حاولوا مداراتها بشرائح من الخشب المطلى بالبنى الغامق بطول الجدار من أعلى وبأسلاك كهربائية سميكة وإضاءة ضعيفة .تتدلى من أعلى لمبة صفراء كبيرة يعلوها غطاء برونزى مسود الأطراف والهواء رطب كثيف ..
كنت أكثرهم حركة واضطرابا .. قمت إلى السكرتير .. رفع عينيه الصغيرتين محتجا وقال : " شويه " . عدت محاطا بنظراتهم الجانبية . تشاغلت بفحص جيب بنطالى ..
فوق المكتب الخشبى الذى لا يجلس إليه أحد كانت إحدى اللوحات متوسطة الحجم ذات إطار خشبى منقوش بأوراق خضراء وذهبية وزهور حمراء ، داخل زجاج خفيف كان جواد أبيض بأقدام رفيعة كدبابيس ورأس خرافى كبير الملامح يثب هائجا فوق بحر أمواجه عالية زرقاء قاتمة ، يغرس حدوتيه الأماميتين فى قرص أبيض يشقق بقوة الضربات الأبرية فوق كرسى قوائمه فى الموج ومسنده فى الريح ..
قلبت أوراقى التى أحفظها .. " كان البطل يترنح باليأس لما رأى حبيبته تجلس محاطة بزهور بلاستيكية وقبضة الرجل الذى جاء مكتظا بالمال .. حينئذ رأى الضباب يملأ فراغ الشارع والبيوت كتلاً أسمنتية لا تحس ، أما أشجار الطريق فخلعت أوراقها الخريفية اليابسة ، فكر حينئذ بالانتحار وأكل خلايا عقله بعدما أشعل بها عدة حرائق ، لكنه فيما بعد سيفكر ببداية جديدة " .
قفلت أوراقى وراقبت ذبابة تجرى فوق جبهة السكرتير ، طردها فعاودت الطيران فوق رأسه . كل من حولى مترقب وصامت كأن هناك معاهدة ما بالكتمان .
انفتح الباب .. أحسست أنه الرجل هو من يلتفون حوله بخطوة دائرية سريعة ، حاذيته .. اعتذر للجميع بانشغاله :-
- يا أستاذ ؟
أمسكنى السكرتير من رسغى كطفل مذنب وشدنى كالآخرين للخلف برفق وبجوار أذنى قال :-
- الأستاذ مشغول.. مش كده !
هبط خفيفا فوق السلالم وأنا وراءه أطارده خجل الخطو ، وقابضا فى الوقت نفسه على خطوة قد لا تسمح نفسى المحبوسة داخل شرنقة العزلة أن تفعلها مرة أخرى .. أسند ظهره بهدوء إلى كرسيه الأمامى .. أشار للسائق ، ولما حاولت أن أضع نفسى فى محيط نظراته نظر إلى باستطلاع ثم انطلقت سيارته مسرعة .
خلف مكتب خشبى بنهاية الصالة المربعة المحاطة بصفين من كراسى جلدية مبقورة أحشائها الإسفنجية يجلس السكرتير منكبا على أوراق خلف يافتة خشبية نصف دائرية محفور فيها اسمه ، رأس صغير أصلع وقميص أصفر زاه .. ابتسمت ، رفع وجهه لأعلى ، مددت يدا قصيرة الأظافر كى أمتص حدة نظرته ، قال " انتظر " ومنحنى ابتسامة بجانب وجهه المستطيل الصغير زاد للانتظار ..
الليلة الماضية مشيت متئدا فوق عقارب ساعتها : أحلام متقطعة وأنفاس تملأ ظلام حجرتى بضوضاء وكنت أعيد فيها همس أحدهم حين أخبرنى أنه عثر على من يستطيع نشر روايتى وقد أخذ لى ميعاد ..
بدأ التعب يتساقط قطرة قطرة .. لم أسند ظهرى للمسند .. راقبت حذائى المترب .. أخرجت منديلا ومسحت أعلى الحذاء ، وضعت المنديل بحرص فى سلة المهملات بجوار مكتب فى الجانب لا يجلس إليه أحد . عدت .. تفحصت الوجوه الأخرى التى تفر أوراقها- لا أعرف إن كانت مقالات أم أشياء عابرة يريدون قضاءها - منشغلة مثلى لا بد فى الحوار الذى سيدور خلف باب طويل أبيض من ضلفتين . فتحت الدوسيه المنزلج بين يدى من رطوبة العرق ، عبرت سطورا أحفظها .. " كان البطل فى البداية ممتنا للأقدار التى جعلت حبيبته ترضى عنه وللزهور الحمراء والبيضاء والبنفسجية ولأشجار الطريق التى تظلاهما .. كان البطل - ملح الأرض - يحب النهر إذ يجلسان فوق العشب بالشاطئ ويمددان أرجليهما على مياهه الهادئة وكانت الزهور العطرية وأشجار الطريق والنهر والقمر الليلى الذى يؤنس وحدته يحبونه أيضا ويتبادلون معه الرسائل التى يحملها أنغام الهواء الشجى وكانت حبيبته ذات الستة عشر ربيعا تحبه وترسل له الرسائل الموشومة بأحرف صغيرة وقلوب معطرة وقبلا خفيه لكنه سمح لشفاهه مرة أن تلامس شفتيها والليل يعبر فوقهم كعاصفة " ..
كانت الجدران مصفرة لامعة أعلاها لوحات متفاوتة الحجم ، زهور بنفسجية وبيضاء متسخة وبارزة محمولة فوق أعناق زرقاء داخل إطار نحاسى .. فسيفاء من زجاج ملون لعروس المولد فى ركن منها فارس بشوارب مبرومة كعنترة يشهر سيفا لأعلى لعله يحمى المرأة التى تحتل ثلاثة أرباع اللوحة .. الجدر هنا أيضا مشروخة وإن حاولوا مداراتها بشرائح من الخشب المطلى بالبنى الغامق بطول الجدار من أعلى وبأسلاك كهربائية سميكة وإضاءة ضعيفة .تتدلى من أعلى لمبة صفراء كبيرة يعلوها غطاء برونزى مسود الأطراف والهواء رطب كثيف ..
كنت أكثرهم حركة واضطرابا .. قمت إلى السكرتير .. رفع عينيه الصغيرتين محتجا وقال : " شويه " . عدت محاطا بنظراتهم الجانبية . تشاغلت بفحص جيب بنطالى ..
فوق المكتب الخشبى الذى لا يجلس إليه أحد كانت إحدى اللوحات متوسطة الحجم ذات إطار خشبى منقوش بأوراق خضراء وذهبية وزهور حمراء ، داخل زجاج خفيف كان جواد أبيض بأقدام رفيعة كدبابيس ورأس خرافى كبير الملامح يثب هائجا فوق بحر أمواجه عالية زرقاء قاتمة ، يغرس حدوتيه الأماميتين فى قرص أبيض يشقق بقوة الضربات الأبرية فوق كرسى قوائمه فى الموج ومسنده فى الريح ..
قلبت أوراقى التى أحفظها .. " كان البطل يترنح باليأس لما رأى حبيبته تجلس محاطة بزهور بلاستيكية وقبضة الرجل الذى جاء مكتظا بالمال .. حينئذ رأى الضباب يملأ فراغ الشارع والبيوت كتلاً أسمنتية لا تحس ، أما أشجار الطريق فخلعت أوراقها الخريفية اليابسة ، فكر حينئذ بالانتحار وأكل خلايا عقله بعدما أشعل بها عدة حرائق ، لكنه فيما بعد سيفكر ببداية جديدة " .
قفلت أوراقى وراقبت ذبابة تجرى فوق جبهة السكرتير ، طردها فعاودت الطيران فوق رأسه . كل من حولى مترقب وصامت كأن هناك معاهدة ما بالكتمان .
انفتح الباب .. أحسست أنه الرجل هو من يلتفون حوله بخطوة دائرية سريعة ، حاذيته .. اعتذر للجميع بانشغاله :-
- يا أستاذ ؟
أمسكنى السكرتير من رسغى كطفل مذنب وشدنى كالآخرين للخلف برفق وبجوار أذنى قال :-
- الأستاذ مشغول.. مش كده !
هبط خفيفا فوق السلالم وأنا وراءه أطارده خجل الخطو ، وقابضا فى الوقت نفسه على خطوة قد لا تسمح نفسى المحبوسة داخل شرنقة العزلة أن تفعلها مرة أخرى .. أسند ظهره بهدوء إلى كرسيه الأمامى .. أشار للسائق ، ولما حاولت أن أضع نفسى فى محيط نظراته نظر إلى باستطلاع ثم انطلقت سيارته مسرعة .