فجأة وجد نفسه ..
قدماه المقوستان تغوصان فى طين لازب ورأسه العار تلفه أغصان متشابكة لأشجار عالية .. كان يخوض مستميتا فى بركة عميقة .. أحس بأن حبلا غليظا مشدود إلى وسطه من ناحية وفى الناحية الأخرى يطوق جبلا شاهقا وهو يشده .. هو لا ذنب له فيما يحدث ، ربما جذبه أنفه العريض وأذناه الكبيرتان وأسنانه البارزة فى وجهه الصغير أو كرشه البارز فى جسده النحيف للركض فوق شريط من اللوحات المتتابعة ..
كان يخرج كل صباح فى الساعة الثامنة إلى عمله ويمشى ثابت الخطوات بطيئا وقد انتبه مرة إلى عيني رجل تتبعانه وحدق طويلا إلى الوجه الغريب فى الشارع بشعره الملفوف المهمل وملابسه الضيقة وبسمته البلهاء وجلوسه فى هذا المقهى طوال اليوم .. فكر أن يعود إليه .. يسحب كرسيا من الداخل ويجلس بجواره ليفاجأه بالأسئلة ولم يفعل ذلك .. عينا الفنان اللتان راقبتاه طويلا فى غدوه ورواحه من موقعها بالمقهى أسقطته ذات صباح مشمس ضاج بالحركة حيث لا ينتبه أحد إلى الأخر وأسقطته فوق أعشاب وأشجار غريبة فى لوحات ينتج بها فلما متحركا .
فى اللوحة الثانية لاح لعيني الرجل المحمرتين فرع يربط جذعين كقضيب .. شهق هواء لزج ، كان مدثرا بالحمأ والديدان..
فى اللوحة الثالثة زال كرشه فخف جسده كثيرا واعتلى الأغصان بسلاسة تعجب منها وهو يتأرجح ، أعضاؤه فقدت أبعادها فقد أسلم ليد فنان لا يدرى جده من عبثه .. رنا إلى الأرض المفروشة بالأعشاب فعلا سمته الجزع .. هاهو نمر عظيم يبرز وسط المشهد النباتي نشاز كأن الفنان يأبى إلا أن تكون النهاية دامية ، جميل بخطوطه الزاهية لكنه جائع ، يهدر كالطواحين وتبرق عيناه الزجاجيتان بألق صياد أوشك على الظفر.. لا شاهد سوى أشعة القرص الأصفر وهى تبدأ فى اختراق الأشجار بسهام حارقة ..
فى اللوحة الرابعة قطع فرعا طويلا وسنه من إحدى طرفيه.. هدر النمر مرة أخرى فارتبكت الحشرات والطيور التى توالى ظهورها ، ورقصت مذعورة أوراق الأشجار العريضة ..
لم يغامر الرجل فى أيام عطلته - من قبل - بالذهاب إلى حديقة الحيوان أو زيارة أحد أقاربه أو الخروج للتنزه قليلا بل كان يقضى وقته إما نائما أو أمام التليفزيون ويسلى نفسه بالاتصال بأقاربه وأصدقائه فى التليفون ، كيف هو الآن مع ما لم يألفه . أراد أن يصرخ فى الرجل الذى ينظر لأعلى قبل أن يخط بريشته فى اللوحة لكن صوته تلاشى تحت تهديد الخطر المتواصل فلم يعد قادرا إلا على التنقل بين اللوحات المتتالية فى سرعة ولهث فوق طاقته .. أنشب النمر مخالبه فى الجذع الضخم صاعدا .. دس الرجل الفرع المدبب فى رأسه فتراجع وربض أرضا حتى تحين فرصة أخرى للانقضاض ، وقال الرجل لنفسه إن خطأ واحدا يمكن أن يودى به مأكولا بين الأنياب البارزة .. انتقل بين الأفرع وعينا النمر الفسفورية تشده بخيط غير مرئي .. انزلق فى بقعة مائية ضحلة فاشتبكا ، وما أن سمحت للرجل فرصة للتراجع حتى تخلص من ثقل الوحل الذى يغطيه وفر هاربا والصياد يلاحقه .. كل لحظة تمر هى عمر آخر للرجل لا يتوقعه لكنه عمراً ليس مسموحاً فيه بالتفكير؛ وكأن الفنان يمنحه فرصة أخرى للنجاة ظهر مجرى نهرى تبرز فى مجراه أنياب صخرية. انتقل فوقها ، انزلقت قدماه مرة أخرى فسقط مغلوبا وعاريا .. تطور المشهد الأخير لأقصى حدوده ، وراوغه أمل فى النجاة ضئيل وإلا فقدت اللوحات المتتابعة دهشتها .. النمر ينشب مخالبه فى الجلد المشدود . نظر المغلوب فى الماء كانت الأنياب والمخالب تتراقص ألقا على الصفحة المهلهلة ..
أحس بوخزات قاسية .. لا يريد أن يحدق أكثر لانعكاس الصور فى الماء كى لا تصدمه رائحة موته - الحقيقى أو الدرامى - فهو لم يعد يملك حقيقة واحدة مما يرى منذ أتى به إلى معركة لم يخترها ولشكل من الرؤى لم تخطر بباله يوما .. اصطدمت أفكاره التى نبتت فجأة - فى فوضى الألوان المحيطة - بحبات المطر السخي التى انهمرت من سماء بعيدة .. سحب الفنان أدواته ولوحاته إلا تلك التى لم تكتمل وجرى مختبئا فى كوخه الخشبي الآمن ..
ساحت الألوان بفعل الزخات المتتالية .. صار هو فوق أما النمر فتبدد فى أرض اللوحة خلفية فجة من كثبان مترامية .. حاول أن يقف ليهرب من قسوة الأحداث التى تهاجمه ليعود إلى بيته فلا يدرى بالضبط الوقت الذى قضاه هنا ، ولا بد أن زوجه وأولاده يبحثون عنه الآن دون جدوى .. حاول أن يطرد تلك الأفكار الشريرة التى تهاجمه مرة واحدة ، لو يعود مثلا فسوف يتعلم أشياء كثيرة .. سيقضى يوما كاملا بحديقة الحيوان، يلمس جلودهم الزلقة والسميكة ويخطو فوق عشب حقيقى وبين أناس يحبهم ، كما سيدخل إلى المقهى ويسحب كرسيا ويجلس قبالة الرجل الذى يراقبه ليبلغه بكل جرأة أنه متوجس منه ، فلماذا يراقبه مثلا ؟ . سوف يكون هناك وقت للأشياء التى أحبها ولم يغامر كى يفعلها وللأشياء التى فعلها ليتذكرها دون دهشة ، لكن أطرافه بدأت تتلاشى فى المزيج اللونى الكثيف ، وسيولة المطر كضربات موجعة لم تكف حتى تبدد باقى جسده العارى فى لوحة أخيرة لم تكتمل بينما يحاول أن يتذكر أشياء تبتعد عنه ..
مطاردة