Subscribe to Wordpress Themes Demo
يوم الزيارة

*رواية تحتمل بعض الصحة .

بوضعى فى طائفة الصعاليك كما رتبنا شيخ الحارة أتيح للهواجس السيئة أن تحتل رأســى ، وتقـف على لسانــى ولا أنطقهـــا وكيف أنطقها حين حضر الجند منذ شهر بالضبط . كانت عرباتهم التى تجرها الخيول الشهباء تقرقع فــوق الأرض المرصوفـــة بالأحجار فينخلع قلبى .. فى البداية جاءوا بمادة كلسية بيضنا بها واجهات الحوانيت وغسلنــا الشوارع فزهت الأحجار السوداء بعدما غسل من فوقها غبار السنوات ، ثم صرف لكل منا ملابس جديدة رائحتها ترطب أنفى وكانت متنوعة : جلابيــب وعمامــات وأحذية جلدية خفيفة .
ها هو يوم المرور المرتقب يقترب مثل وعد بالجلد ، وهاهو المظفر ، الظافر ، الليث المتجبر على أعدائه ، الراعى لرعاياه والحامى لحمى الدين ( شمس الدين الأبيض ) سيقتحم حينا للمرة الأولى فى حياته، أقصد فى حياتى كيف لى أن أتوغل بصفاقة وأجدف بتاريخ مولانا ؟
غليظة أسياط عساكره وقهقهاتهم !
بأمعائى الفارغة قبل يومين من الزيارة كنت أدور مساء فى الماخور الذى لا يعرف سحره سوانا والذى رغم انتشار العيون والحراب استطعنا الولوج فيه .. ما أن نهل أول الشارع الضيق المسدود فى نهايته بأحد الحوانيت الكبرى حتى نلتفت وراءنا ثـم نتقدم بحرص .. نجتاز باب محل العطار المترب ونتوارى خلف المكتب ونرفع غطاء خشبيا تحت كومة من القش .. كنا نتوافد فى ساعة متقاربــة متفــق عليها بإشــارة أثنــاء سعينــا الدءوب طوال النهار .. نوغل فى الدهليز الرطب الذى تغرس فى جوانبـه أعمـــدة خشبيـــة وعــوارض متينــة من جــذوع الأشجــار الضخمة لتسند السقف . أضواء الزيت تشعل الروح الشبقة.. على المدخل يقف حارسان بأردية متسخة لكنها متشابهة وينحيـان حرابهما للقادم بعد أن يفحصوه من منبت شعره حتى أخمص قدميه ..
قيل أن العطار العجوز وقد كان عاملا بدار الكتب بوسط المدينة قد أطلع على أسرار جمة وقام بمجموعة من الأبحاث قضى ما يزيد عن عشر سنوات فى وضعها لتحويل التراب إلى ذهب ولم يفلح فقضى عشرون عاما أخر فى التنقيب عن ذهب تحت القشرة الطينية لتلك الأرض الحافظة لمجد الأجداد .. اشترى بيتا وحانوتا واستأجر عمالا وهاهم يديرون المكان الآن بعد أن تعمقوا بلا جدوى ..
أجمل ما فى مملكتنا الأرضيـة أن الكــل يعرف دوره بالضبــط ثم ينفذه بدقة حتى الراقصة الزنجية تبدو كما لو أنها تبيع الهوى لحفنة من الثمالى ..
نتمدد فوق أرض البهو .. لا أثاث سوى مفرش من الخوص وطاولة فوقها زجاجات وكؤوس وراءها أقفـاص مليئة بالقـش .. أحيانا تنغلق الستار الباهتة فنشعر بالوحدة ثم نتسلى بالخيالات التى تتراقــص وراءها فى نــوبة تبديل الأدوار .. نحتسى الخمر الرديئة بعد أغنية فجه كتبها شاعر ماجن من أبناء مملكتنــا الأرضية ونصفق بانتظام وحين تزحزح الستار لتخرج الراقصة الزنجية زبيدة تستعر بجوفنا نار ..
لأول مرة احتسى زجاجتين ثم أقف متأهبا .. رأسى ثقيل لكن المرئيات لم تفقد توحدها بعد .. أخلع جلبابى المرقع وأقف عاريا إلا من قطعة تستر خصرى .. اسحب عصا من يد الراقصــة وأخلع الستار التى ضاع لونها ، ألفهـا عباءة وفــى نشوة تفوق نشوة الخمـــر أدور .. الكل صامت .. فى أعينهم المحمرة ضحكة مكتومة .. أزعق بلا توقف .. ألوح بيدى لهؤلاء الهالكـين لا محالـة من البرد والجوع والخمر الرديئة..أدلى مقصلة من خشب السقف.. أرتمى على جنبى .. مرفقاى العاريان يستندان إلى حواف الكرسى الوهمى وصولجانى أمده إليهم كما اعتدنا وبكل ضراوة الوحش المولود داخلى للتو أنطــق " فليشنــق الأعــداء واحدا فواحدا وبلا رحمة " وأرشقهم بسهام حادة من نظراتى فيتساقطون .
فى اليوم التالى أنبرى أحد الجند – اعتقده كبيرهم – لما تكلل به هامته من شارات ولما تلقاه كلماته من توقير وتنفيذ لتعليمنا، اتخذ هيئة الملك وكبرياءه فمارسنا بمهارة الأدوار الواجبة للرعايا الصالحين ..
**********
صهلت الخيول الملكية ومن أعلى قبة فى الحى نفخ فى البوق النحاسى وعلى الفور اختفت شمس الصباح خلــف سحـــب دكنـاء وطارت العصافير مبتعدة ، واختبأت الكلاب فى الأزقة ، وهرع جيش النمل بصفة الرتيب إلى الجحور بينما مرقت نظراتنا المتلهفـة من بين رؤوس الحراب المتشابكة فى أيدى الجنود المصطفين على جانبى الشارع ..
أهو ذا ؟ أتلك الرأس الثعلبية الصغيرة وذاك الجسد النحيل هو ما أضج مضاجعنا منذ ولدت .. فكرت أن أبصـــق باتجاهــه لكن نظرة جهنمية تصوب باتجاهك .. فقط أنت تؤدى دورك بلا زيادة أو نقصان ، هذا وحده يجعلك آمنا : أن تبتسـم ببلاهـة وتلوح هاتفا كما علموك ..
لوح بأصابعه المكتنزة المكللة بخواتم صفراء زاهية ومسح بعينيه الغائرتين أجساد مرهقة تتراقص هتافا بحياته . دهشتنا ضاعفت لجسده عافية فوقف بشيخوخة عظيمة على قدميه ولف عباءته مثلما فعلت وأشار بصولجانه الذهبى إلى الأمام واستنشق عبير النصر.
كان أولو الأمر من أهل حينا قد وطدوا أنفسهم من قبل على جمع تبرعات لتقديم هديه متواضعة تعبيرا عميقــــا عن سعادتنا بالزيارة . لم تفتنا المشاركة إذ أنهم حين لا يجدون المال فإنهم يقبلون الغلال وإذا لم يجدوها فإنهم يقبلون الأسمال التى نرتديها ليتم بيعها فى السوق الكبير ..
أعدت دار شيخ التجار حسين بن على للاستقبال . لم يتعب نفسه ونحن نلتف حوله نسأله عن عدد الحروب التى انتصر فيها الملك .. كان يشيح بوجهه ويغمز بعينه العوراء وحين ألححنا فى السؤال لم يذكر ألا عدد العيون التى تتربص بالحى . توجسنا خيفة وآثرتا الصمت والبلاهة .. أعد لنا مكان خلف نوافذ الأرابيسك تحقيقا لمبدأ الملك فى المساواة والإعلان عن كافة ما يقول دون نسخ أو تحريف..
كنا نلوك شفاهنا اليابسة حين نحدق فى الكؤوس التى تدور بينهم ، فبعد التهام الطعام أشار الملك بيده ابتداء للكلام.. قام على الفور كبير التجار صاحب المقام ، تقدم فى تؤده .. ثنى جذعه السمين وتدلت رأسه كثمرة ناضجة وأستأذن فى الكلام:-
- مولاى الملك المعظم .. أجل الله مقامك ، ونصرك دوما على أعدائك وجعل لك خيرا الدارين.. كنت للرعية خير حام ، وللدين خير ساند ، وللحرب خير مجاهد..لو يسمح مولاى أستفسر فى أمر شغل الرعية أيما شغل (سكت برهة ) إن أمتكم يا مولاى تود لو تعرف دور عظمتكم فى الحرب الدائرة بين الجان فى الأفلاك ؟
تحرك ثغر الملك باسما وعلى أثره نبتت ابتسامة جماعية فى الحشد فقال :-
- لقد قلنا وكررنا , أطلنا الخطب وسودنا الصحف بأننا دائما لا نتراجع عن مواقفنا المعروفة مهما تكبدنا الضرر .
الجوارى طفن مرة أخرى رشيقات كغزلان بالكؤووس .. قام ممثل الفقراء ( قمر الزمان برهان ) وقال بعد الصلاة على النبى (ص) :-
- أظن أنى يا مولاى لست محتاجا أن أرغى فى فضلكم وجهادكم المعروف فلن يزيد كلام الفقير إلى الله فى ملككم الكريم أدامه الله لكم ، وجعل سعد أمتكم فى سعادتكم .
سكت فجأة كأنما أنحشر الكلام فى فيه .. عقد الملك ما بين حاجبيه الكثيفين وأستنكر ..
- لى طلب واحد عندكم مولاى .
شهق الملك بارتياح وشهقنا وراءه بارتياح أيضا .
- تفضل : أحسبك ممثل الفقراء ، ماذا تريدون ؟
- مولاى .. باعتبارى كما قدمتم ممثل الفقراء مهنة ورثتها فإن ضميرى يلهبنى بسياط من العذاب .. كنا فيما مضى من الزمـان أكبر أركان المملكة ، أما الآن ومنذ أن وفق الله الأمة بحكمكم فقد صارت وظيفتى غير ذات بال .. تمعن مولاى فلن ترى إلا الخير ، كل الخير ..
قال الملك :-
- فضل الله ونعمته ، قد رأينا ما حكيت وأنا مجيبون لطلبك..أخرج الملك كيسا يخشخش بالذهب ثم نفحه لممثل الفقراء مكافأة على صدقة وإخلاصه وثقبنا بنظرة كالسهم .. طأطأنا رؤوسنا فى ذل .. كانت الجوارى قد بدأن فى التخفف من ثيابهن والتهبت صدورهن بموسيقى خافته بدأت تنبعث فى الأركان فأقفلت فى وجوهنا النوافذ .. تسلحفنا عائدون أمام حرابهم المشرعة .
كالمعتاد ذهبت وخلاني إلى مملكتنا الأرضية .. عــدت لتقليـد الملك كما تخيلت من قبل وفعلت لكن أعضائى تصلبت كأنما شلت..حاولت أن أقتنص لحظة النشوة الطارئة التى اختلج لها قلبى منذ أيام ولم أفلح ، أظن أن شجاعتى نفسها قد خانتنى وأطرافى فقدت قوة توازنها لسبب لا أستطيع تحديده ..
انسحبت أجر أذيال خيبتى وخرجت إلى أضواء الشارع أرقب الجنود الذين لم يستطيعوا معرفة طريقتنا فى الدخول ليمنعونا ودمعه تتفجر فى مآقي .. نادانى الصحاب الذين استطاعوا أن يخرجوا كما دخلوا خلفى بصوت وان ولم أستجب.. رفعت رأسى فى الشارع فتملكتنى رغبة عارمة فى الجرى بلا هدف . سقط بعد خطوتين فقمت وجريت وأنا أرغب فى تحطيم كل ما يقابلنى وفى النهاية حين أصل أسكب نفسى فوق الأوراق التى أدونها لتفريغ همومى .. أحسست بأن أقدام كثيرة تهرول خلفى تقترب بشدة .. أضواء المشاعل حينئذ انسلت هاربة منى لتسلمنى فجأة لظلام مريع حين أصفع الأرض بوجهى ، وأغيب..
لم أفق إلا على لهيب النهار مدرجا بجراحى ..
**********
** تذييل
كنت قد دأبت فى البحث فى فترة حكم أسرة ( شمس الدين الأبيض ) التى سقطت فيما بعد حيث عمت الاضطرابات والفتن ولم يستطع رجالها أن يصمدوا ، علنى أعثر على تفاصيل أكثر ثراء عن تلك الزيارة التى قام بها لحى الفقراء من مصدر أخر كى أقيم صرح حقيقة واحدة منذ أن اتخذت تاريخ أجدادى البعيد مادة لى ألوكها صباح مساء ..