رمقه جميع الجالسين فى المقهى باستخفاف .. سحب كرسيا بهدوء ، وجلس وحيدا وسط التجمعات .. القهقهات .. العواصف من الكلام البذيء ، وسحب الدخان التى تخرج من الجوزة وأفواه المعلمين واضعا يده على الطاولة التى تنتصب أمامه وقد أطلق السوس داخلها صريرا ممطوطا يسمعه طوال الوقت . لم يكن صبى المقهى جاسوسا عليه من قبل جماعات لا يدرى كنه عملها ولم يكن ينبذه كما يعتقد حين يدخل عليه فى جرأة لا يجربها مع أى زبون .
- تشرب إيه يابيه ؟
يرفع الرجل رأسه بارتباك من نجا فورا من دوامة .. ينظر إلى الصبى فى ود ويرد فى هدوء :-
- قهوة سادة والحجر من فضلك .
تتبعها ابتسامة تشد أخاديد وجهه المتغضن .. كل كلمة تخرج من شفتيه الغليظتين تزلزل أعماقه .. يتنهد بحرارة مضطرمة تبرز قسماته الصغيرة .. ساعة ويفرغ الصبى من تحضير القهوة ، الحلبة ، التمرهندى ، دس المعسل الطازج فى الأحجار فوق كل جوزة .. تنظيف الصوانى وتلميعها فى طرف جلبابه المتسخ .. نفض الغبار عن علبة الشطرنج والدومينو والطاولة .. توزيع الطلبات المحاطة بأكواب الماء المثلج وإلقاء قفشة أو قفشتين عند كل مجموعة يسحب كوبا ملقى على أرض المقهى نسى أن يغسله ، يرش عليه قطرات مياه وينفضه.. يصب القهوه .. يثبت حجرا قديما أعلى الجوزة الأخيرة .. ينحت بقايا قطع المعسل من جوانب العلبة ويضغطها بإبهامه الأيسر فى قعر الحجر.. يلتقط بماشته قطعتي فحم لا أكثر ويلقيها أعلى الحجر ، ثم يلقيهم جميعا بلا اكتراث أمام الجالس وحيدا فى ركن عتيق بجوار عمود جريد وضع للزينة من قبل قد نسجت فى أعلاه العناكب خيوطها الكثيفة فعشش فيه الاستسلام والخراب .. اليوم بالذات والذى نال صبى المقهى فى صباحه ست صفعات متتالية على وجهه وقفاه بلا سبب لم يكن ليفوت هباء وهو الذى علمته أيامه المراوغة والنفاذ من العجين كالشعرة . أطلق فيه ذلك الرجل القابع دوما تحت بيوت العنكبوت روح التحدى .. تمنى الصبى أن يؤتى كل أنواع القوة فى العالم .. يصفع كل من ارتفعت أصواتهم بالضحك والشتائم وكل من طالت شواربهم وأيديهم. يصفعهم بكل قوة حتى ينزفوا دماء حارة غزيرة ثم يجرهم مع القهوة إلى ذلك المستلقي حزينا ، مطرقا كمن يكتم فى صدره ديناميتا لا نهاية لانفجاره .. يطلبوا حينها الاستكانة إلى جواره.. لعب الطاولة .. تبادل القفشات .. صفع الأيادى بعد كل قهقهة عالية .. ألا يجيء ليلا ، كل ليلة ، يجلس جلسته المتوجسة.. يتفرس الأرض والوجوه .. يلتقط أقل إشارة لصداقة قد تحدث فيبتسم .. يمد يده المعروقة أملا فلا تقابلها من الناحية الأخرى سوى وشوشة مضطربة تتبعها ضحكات هازئة ، وتساءل الصبى بسذاجة وهو يعد للرجل كوبا نظيفا ، ويلمع الصينية المطلية بماء الذهب والتى لا تخرج إلا لزوار المعلم فرج القادمين من خارج القرية بجيوب محشوة بالحشيش كل شهر .. يحيطها بكوب من ماء مثلج ، ويضبط حجرا جديدا سرقه خلسة من جوزة المعلم فرج : ( الراجل دا أرنب ليه وفاكرنا أسود ويمكن إحنا أمر منه ) ويتذكر الصبى ما حدث منذ عامين فيلوذ بالصمت .
تقدم فى لهفة .. مسح الطاولة المتربة بخرقة بالية .. وضع القهوة والجوزة ودمعة ساخنة تتلألأ على خده .. إنه يريد من الرجل أن ينظر فى حدة .. يبرم شاربه فى كبرياء .. يردد بصوت مفزع ككل زبائن المقهى :-
- روح ياوله هات .... واظبط الحجر زى الناس بسرعة ..
لكنه خيب أمله ورد كعادته :-
- متشكر .
أراد الصبى أن يطيل معه الحديث .. ربما أراد أن يقعد بجانبه ويتندران بنكات قبيحة ويضحكان بصوت يصفع رؤوس الجميع.. يحكى الصبى ما حدث له هذا الصباح فقد يكونا إتحادا لا يهمه ما يكون مصيره وقال بنبرة إلحاح كأنما يريد من الرجل أن يأمر :-
- مش عايز حاجة تانية يا بيه ؟
- لا ، متشكر .
- القهوة مظبوطة ، والحجر على مزاجك ؟
- أآ .. تمام .
تركه يائسا إلى النصبة التى تفصلها عن المقهى سور خشبى عريض .. كان الرجل يرمق الجالسين حوله فى رهبة رغم أنه فيما مضى لم يتصور أن يجلس وسط هذا الجو المشحون بالريبة والانحطاط ليطلب نظرة رضا .. ذات يوم كاد ينزل إلى قدم أحد رواد المقهى يمسح حذاءه لأنه تعثر بها وهو يمر هائما فى ظنونه.. على المقاعد التى انتصبت أمامه تهامس المعلمين .. طارت الكلمات المفلوتة إلى أذنيه الثعلبيتين .. اضطرب كجبل ينهار :-
- هو على حاله ده من يوم ما طلع عليه وعلى مراته وأولاده قطاع طرق .. أعدموهم ضرب وسرقوا فلوسه و... صاحبنا زى الفار كش فى جلده .. والبوليس يعنى جاب له إيه!
تقلصت ملامحه ، وغاب وعيه فى قاع بئر .. ارتشف ما تبقى فى الكوب بسرعة .. سحب نفسا أخيرا من الجوزة ثم لف الخرطوم حول جسدها اللولبى ووقف ناظرا إلى الصبى الذى يرتكن بذراعه اليسرى على النصبة انتفض الصبى وقتما التحمت نظراتهما رغم سحابات الدخان المتشابكة . جاءه فى عجالة .. رجاه أن يجلس قليلا لكنه قاطعه فى هدوء حذر :-
- متشكر .
دفع بجود .. عيناه الجاحظتان مسحتا أرض المقهى المسفلتة.. مرق كالسهم من بين الطاولات المرصوصة على الناحيتين ، وحين وصل على الباب الصاج القديم رنا إلى الجالسين بصمت وصوب نظرة أخرى إلى الصبى الذى يقف حائرا .. نظرة لم تتعد لحظات غاب بعدها وسط الظلام الكثيف .
- تشرب إيه يابيه ؟
يرفع الرجل رأسه بارتباك من نجا فورا من دوامة .. ينظر إلى الصبى فى ود ويرد فى هدوء :-
- قهوة سادة والحجر من فضلك .
تتبعها ابتسامة تشد أخاديد وجهه المتغضن .. كل كلمة تخرج من شفتيه الغليظتين تزلزل أعماقه .. يتنهد بحرارة مضطرمة تبرز قسماته الصغيرة .. ساعة ويفرغ الصبى من تحضير القهوة ، الحلبة ، التمرهندى ، دس المعسل الطازج فى الأحجار فوق كل جوزة .. تنظيف الصوانى وتلميعها فى طرف جلبابه المتسخ .. نفض الغبار عن علبة الشطرنج والدومينو والطاولة .. توزيع الطلبات المحاطة بأكواب الماء المثلج وإلقاء قفشة أو قفشتين عند كل مجموعة يسحب كوبا ملقى على أرض المقهى نسى أن يغسله ، يرش عليه قطرات مياه وينفضه.. يصب القهوه .. يثبت حجرا قديما أعلى الجوزة الأخيرة .. ينحت بقايا قطع المعسل من جوانب العلبة ويضغطها بإبهامه الأيسر فى قعر الحجر.. يلتقط بماشته قطعتي فحم لا أكثر ويلقيها أعلى الحجر ، ثم يلقيهم جميعا بلا اكتراث أمام الجالس وحيدا فى ركن عتيق بجوار عمود جريد وضع للزينة من قبل قد نسجت فى أعلاه العناكب خيوطها الكثيفة فعشش فيه الاستسلام والخراب .. اليوم بالذات والذى نال صبى المقهى فى صباحه ست صفعات متتالية على وجهه وقفاه بلا سبب لم يكن ليفوت هباء وهو الذى علمته أيامه المراوغة والنفاذ من العجين كالشعرة . أطلق فيه ذلك الرجل القابع دوما تحت بيوت العنكبوت روح التحدى .. تمنى الصبى أن يؤتى كل أنواع القوة فى العالم .. يصفع كل من ارتفعت أصواتهم بالضحك والشتائم وكل من طالت شواربهم وأيديهم. يصفعهم بكل قوة حتى ينزفوا دماء حارة غزيرة ثم يجرهم مع القهوة إلى ذلك المستلقي حزينا ، مطرقا كمن يكتم فى صدره ديناميتا لا نهاية لانفجاره .. يطلبوا حينها الاستكانة إلى جواره.. لعب الطاولة .. تبادل القفشات .. صفع الأيادى بعد كل قهقهة عالية .. ألا يجيء ليلا ، كل ليلة ، يجلس جلسته المتوجسة.. يتفرس الأرض والوجوه .. يلتقط أقل إشارة لصداقة قد تحدث فيبتسم .. يمد يده المعروقة أملا فلا تقابلها من الناحية الأخرى سوى وشوشة مضطربة تتبعها ضحكات هازئة ، وتساءل الصبى بسذاجة وهو يعد للرجل كوبا نظيفا ، ويلمع الصينية المطلية بماء الذهب والتى لا تخرج إلا لزوار المعلم فرج القادمين من خارج القرية بجيوب محشوة بالحشيش كل شهر .. يحيطها بكوب من ماء مثلج ، ويضبط حجرا جديدا سرقه خلسة من جوزة المعلم فرج : ( الراجل دا أرنب ليه وفاكرنا أسود ويمكن إحنا أمر منه ) ويتذكر الصبى ما حدث منذ عامين فيلوذ بالصمت .
تقدم فى لهفة .. مسح الطاولة المتربة بخرقة بالية .. وضع القهوة والجوزة ودمعة ساخنة تتلألأ على خده .. إنه يريد من الرجل أن ينظر فى حدة .. يبرم شاربه فى كبرياء .. يردد بصوت مفزع ككل زبائن المقهى :-
- روح ياوله هات .... واظبط الحجر زى الناس بسرعة ..
لكنه خيب أمله ورد كعادته :-
- متشكر .
أراد الصبى أن يطيل معه الحديث .. ربما أراد أن يقعد بجانبه ويتندران بنكات قبيحة ويضحكان بصوت يصفع رؤوس الجميع.. يحكى الصبى ما حدث له هذا الصباح فقد يكونا إتحادا لا يهمه ما يكون مصيره وقال بنبرة إلحاح كأنما يريد من الرجل أن يأمر :-
- مش عايز حاجة تانية يا بيه ؟
- لا ، متشكر .
- القهوة مظبوطة ، والحجر على مزاجك ؟
- أآ .. تمام .
تركه يائسا إلى النصبة التى تفصلها عن المقهى سور خشبى عريض .. كان الرجل يرمق الجالسين حوله فى رهبة رغم أنه فيما مضى لم يتصور أن يجلس وسط هذا الجو المشحون بالريبة والانحطاط ليطلب نظرة رضا .. ذات يوم كاد ينزل إلى قدم أحد رواد المقهى يمسح حذاءه لأنه تعثر بها وهو يمر هائما فى ظنونه.. على المقاعد التى انتصبت أمامه تهامس المعلمين .. طارت الكلمات المفلوتة إلى أذنيه الثعلبيتين .. اضطرب كجبل ينهار :-
- هو على حاله ده من يوم ما طلع عليه وعلى مراته وأولاده قطاع طرق .. أعدموهم ضرب وسرقوا فلوسه و... صاحبنا زى الفار كش فى جلده .. والبوليس يعنى جاب له إيه!
تقلصت ملامحه ، وغاب وعيه فى قاع بئر .. ارتشف ما تبقى فى الكوب بسرعة .. سحب نفسا أخيرا من الجوزة ثم لف الخرطوم حول جسدها اللولبى ووقف ناظرا إلى الصبى الذى يرتكن بذراعه اليسرى على النصبة انتفض الصبى وقتما التحمت نظراتهما رغم سحابات الدخان المتشابكة . جاءه فى عجالة .. رجاه أن يجلس قليلا لكنه قاطعه فى هدوء حذر :-
- متشكر .
دفع بجود .. عيناه الجاحظتان مسحتا أرض المقهى المسفلتة.. مرق كالسهم من بين الطاولات المرصوصة على الناحيتين ، وحين وصل على الباب الصاج القديم رنا إلى الجالسين بصمت وصوب نظرة أخرى إلى الصبى الذى يقف حائرا .. نظرة لم تتعد لحظات غاب بعدها وسط الظلام الكثيف .